-->
مجلة العربي الأدبية مجلة العربي الأدبية
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

ا. محمد البنا .. قراءة تفصيلية عن نص الاديب سيف بدوي -مجلة العربي الأدبية



قراءة تفصيلية 

عن نص للأديب الرائع / سيف بدوي


كتب أ. محمد البنا :

انطلاقة من محيط الدائرة إلى مركزها 

النص


آتيكِ من مدينتي القديمة، تلك الملقاة كجثة غريق على شاطي المتوسط.. كآخر يابسةٍ على الأرض .

 أفر من خوفي الطفولي، وبداوة عشقي المهمل منذ سنين، أكان الطريق طويلاً إلى هذا الحد ! ربما؛ غير أنه كان مظلماً و موحشاً وبلا نهاية!

 على مرمى البصر كانت تلوح مدينتكِ خلف هذا الظلام / تتلألأ و تتضوأ ككرنفال صاخب.. 

       أكان الطريق طويلاً .. وأبدياً ! ربما؛ غير أني في تلك الليلة، كنت على مقرُبةٍ منكِ، أتَرَجَّلُ حول فِنائِكِ، تتشظى إرادتي بين الصعود إليك وبين الفرار!

كنت أدور حول بيتك، وكلما وصلت إلى تلك البوابة الحديدية بمجسماتها النباتية المطلاة بلون لا هو بالأخضر ولا هو بالأزرق السماوي؛ وقفت أقرأ اللوحة الرخامية المثبتة على الحائط، أو لعلني كنت أقرأ اسمك فقط.. مراراً وتكراراً، أتأمل تعرجات الحفر في كبد الرخام، اجتهد في حل التناقض بين رقة اسمكِ وبين حِدة الإزميل وقساوة الحجر !

 أقول : هو كتب اسمك على لوحة من رخام / مثلما يكتبون أسماء الموتى ... وأنا كتبت اسمك على كبدي الحي، ثم أفيق من هذياناتي تلك، وأعود إلى الطواف، وكلما ابتعدتُ صرت التَفَتُ إلى تلك الشرفة العالية.. أعلمُ أنكِ هناك ؛ حيث الدفء الكثيف، وأراجيح الوقتِ، وصخب الأصدقاءْ .

        قلت: لن أصعد .. فأنتِ تبتسمين لهم.. جميعاً، وهم – جميعاً – يغازلونكِ، أنتِ ترفعين وجهك لأعلىٰ.. وتحدقين في أعينهم.. تماماً في أعينهم ! ( كم أنتِ مثيرة حين تفعلين ذلك )، ثم تبتسمين لهم.. بشفتيك الصغيرتينِ ( تلك الابتسامة التي طالما أزْهَقَتْ مهجتي )!

قلت: لن أصعد.. لتظل عينيك تحدقان في مقعدي الفارغ، قبل أن يشغله أحدهم وسط زحام الحفل، أيؤلمك ذلك !؟ 

        أعلمُ أنهم سيغادرون بعد قليل، وأنك ستأخذك تفاصيل الليلة: المماحكات..النظرات.. و لمسات أصابعهم وهم يأخذون من بين يديك أطباق الضيافة، أو فنجان القهوة.. فتبتسمين ابتسامتك التي تراوغ ما بين القبول و الإعراض !

        لن أصعد، قلت لنفسي: كفى.. فأنا أعلم أنهم سيغادرون بعد قليل.. وأنك ستسرعين إلى سريركِ، يغمركِ الضوءُ الخافتُ.. والدفءُ، فتغمضين عينيكِ، وتسترجعين كل لحظة خالجتك، وكل نظرة لامَسَتْ وَتَرَكِ.. كل مغازلة خجولة او فاجرة.. تستجمعين كل ذلك؛ و تتجرعينه دفعة واحدة.. ثم تغيبين في سكرتك.. بينما.. هاتفكِ المُلْقَىٰ على طرف وسادتك.. يضيء باسمي !

ــــــــــ

من : #رسائل_لن_تصل_إلى_السيدة_س

#saif_badawe ٢ أغسطس ٢٠٢٢

..........................

القراءة

قد لا يخفى على أحد أن النص بُدأ بدون عنوان، ولكنه انتهى به ضمنيًا كرسالة من عدة (رسائل لن تصل للسيدة س)، والتي قد تكون مجموعة قصصية، أو كتاب ينتمي لأدب الرسائل، وهو أدب قديم حديث متعارف عليه، ولعل أبرز أمثلته رسائل متبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران، ورسائل متبادلة بين غادة السمان وغسان كنفاني.

وأديب مثل أديبنا الأستاذ سيف، لا نتوقع منه ذلك أنه ورد سهوا، بل اليقين كل اليقين أنه تعمد ألا يضع عنوانًا لقصته المتخفية في زي رسالة..فلم فعل يا ترى ؟.

نحن أمام إجابتان لا ثالث لهما، اولاهما أن الرسالة ضمن العديد من رسائل متعاقبة وضعها في كتاب يحمل العنوان الذي ذكره مذيلًا به نصه، وهو الاحتمال الأقرب للصحة، وثانيهما أنه تعمد ألا يضع عنوانًا لقصته تاركًا لكل قارئ اختيار العنوان الذي يتوافق مع رؤيته، وكاسرًا بذلك تابوه ثابت للقص الا وهو أن العنوان عتبة النص..وهذا الاحتمال الثاني رغم ضعفه إلا أنه الأقرب لقلبي وعقلي في آن.

كسر التابوهات نوع من التطوير السردي ووتجريب لاستحداث انماط سردية ما بعد حداثية، ولا بأس من التجربة، بل اراها ضرورة حتمية كسنة من سنن الحياة، فحياتنا كلها تجارب قد ينجح بعضها وقد يفشل بعضها، ولكي نستمر أحياء لا بد لنا من التجريب، وهنا حاول الكاتب والسؤال هل نجح أم فشل؟

عن نفسي - رأي شخصي- أراه نجح بامتياز، فقبل بداية قراءتي للنص لفت نظري مستغربا عدم وجود عنوان، فظننت أنني مقدم على قراءة نص أدبي نثري، ولكن - ومع أول كلمة - أتيتك..أيقنت تماما ان لا ضرورة تقتضي وجود عنوان مسبق كعتبة للنص..أتيتك..فعل حركي جاذب أُلحق به كاف المخاطب، فاسترعى انتباه القارئ وحواسه منذ البدء، وتمادى الكاتب في السيطرة على ذهن المتلقي بنقشه لوحة واقعية رائعة لمدينة على البحر المتوسط..ليرى كل متلقي مدينته، فاللبناني يرتسم في مخيلته تلقائيا بيروت او طرابلس او صيدا، والجزائري يرى مدينته..بو مدراس او الجزائر او وهران، والمصري يرى دون وعي الاسكندرية او بورسعيد او دمياط، وهكذا ينطبق الحال على معظم قارئي العربية في بلداننا العربية الحبيبة المطلة على المتوسط.

هى مدينته ولكننا رأيناها مدينتنا، هى طبقة من مجتمعه - الارستقراطي- ولكننا تخيلناها طبقة من مجتمعنا الارستقراطي، ومن ثم يواصل المصور الماهر تبئير عدسته فيسلط الضوء على حفلٍ تقيمه سيدة من سيدات المجتمع، يعشقها كغيره من مريديها، لكنها توزع ابتساماتها وضحكاتها ولمساتها بالتساوي بين الحضور، لا تميز أحدهم عن الباقين، وهو المتابع العاشق الظامئ، ومن يدرينا أنه ليس إلا واحدًا من جملة عاشقين لها؟ ..ربما كان الوحيد، وربما كانوا كثر، لينتهي الحفل ويبدأ رنين هاتف..لا تراه ولا تسمعه!!

راوغت الحروف..ربما، والأكيد أنك راوغتني أنا، أحسنت تجزئة المشهد..ربما، والمؤكد أنك مزقتني أشلاء جاهدت لأجمعهما لأنسقها متمازجة مع جزئيات نصك، جعلت بطلك محبا لا تشعر به حبيبته..ربما، وعين اليقين أنني كنت هو، نعم كنت هو، .وهنا تكمن براعتك يا صديقي، وهذا من باب تأكيد المؤكد ، اقتنصتني أنا بلحمي ودمي وروحي ومشاعري وجعلتني- دون وعي مني - بطلا لقصتك..

هل يرضيك هذا؟..ربما، ولكنه صدقا أسعدني أيما سعادة

صياغة سردية بحرفية صائغ محترف، يعرف أين يضع حرفه، وأين يطلق رصاصة كلمته، وأين يتوارى تاركًا للمتلقي صياغة المشهد بنفسه ومن مخيلته.

ذكرني هذا النص بتقنيته السردية المتفردة بنصي ( من ثقب إبرة )، فهنا لجأ الكاتب لتقنية التبئير والزووم من الاوسع للأضيق لينهي مشهديته في أصغر وادق كوادرها ( هاتف محمول يضيئ )، مدينة / أسوار فيلا / شرفة وغرفة / هاتف مضيئ، بينما تقنية نص( في ثقب إبرة ) انتهجت تقنية معاكسة إذ بدأ الكادر ضيقًا جدا ( الطباخ) ومن ثم أخذت العدسة - من خلال عينيه -تتسع شيئا فشيئا لتشمل نماذج بشرية واقعية تعيش في مجتمعاتنا، لينتهى المشهد- بالكادر على اتساعه اللانهائي- بفضاء فارغ والرجل الوسيم المهندم المتسول يغادر في الظلام..

وحين نتحدث عن اللغة السردية، لا نملك إلا أن نقول أنها لغة بسيطة سلسلة بعيدة عن التقعر والاستعراض اللغوي الذي غالبا ما يأتي بنتائج عكس المرجوة منه إلا من رحم ربي، نعم لغة مفرداتها بسيطة، قاموسها محدود، مع تلاعب لغوي بسيط غير مؤثر سلبا ( هذياناتي )، إلا أن الملفت للنظر كان تكرار كلمة ( ربما )، ولكن مهارة الكاتب أحسنت وأجادت توظيف التكرار للكلمة ذاتها، ما أضفى على النص حيوية ذهنية أشركت المتلقي بخباثة في صناعة الحدث المشهدي بشقيه المرئي المتخيل والنفسي المحسوس.

جميل ما قرأت لك يا صديقي قاصًا فسحرتني، ومن قبل قرأت لك ناقدًا فأدهشتني.

أ. محمد البنا 

 النص أ. سيف بدوي 

جمهورية مصر العربية 

   مجلة العربي الأدبية 

أ. محمد البنا .. قراءة تفصيلية عن نص الأديب سيف بدوي


التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

مجلة العربي الأدبية

2022