-->
مجلة العربي الأدبية مجلة العربي الأدبية
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

أ. عادل مناع .. قصة قصيرة " أجراس الماضي " مجلة العربي الأدبية



قصة " ‏أجراس الماضي "


كتب أ. عادل مناع :


مشهدٌ يوميٌّ متكرر جذب انتباه ذلك المعتمر في ساحة الحرم، تلك العجوز التي دأب شاب على التردد عليها وقضاء حاجاتها في لهفة وحنان، ثم يقبل رأسها في كل مرة مودعًا، لتسبل هي دموعها مِن خلفهِ، مُحركةً شفتيها بكلمات لم يتبينها ذلك المعتمر، والذي دفعه الفضول لمعرفة سبب بكائها.

اقترب منها، وعرض عليها خدماته، فشكرته وأمطرته بالدعاء، ما حفّزه لسؤالها عن بكائها عقب انصراف الشاب في كل مرة، اهتز كيانه وهو يرى وقْع السؤال عليها، إذ اتسعت حدقتاها وكأنما داهمتها ذكرى موجعة، ثم ارتخت أجفانها وانهمرت دموعها فجأة، وبدأت تتخطى حواجز الزمن إلى الماضي وتسرد له الحكاية.

خمسة عشر عاما قضيتها بعد زواجي بلا إنجاب، بينما لم يبدِ زوجي ضيقًا أو تأففا، بل غمرني بحنانه ومواساته، لكنني بحاسة الأنثى، أدركت حجم معاناته، فقررت أن أزوجه بنفسي لينعم بالذرية، وبعد سجال ومداولات قضي الأمر واتفقنا على أن يتزوج، كنت مثالية أكثر من اللازم، وبحثت له بنفسي عن زوجه مناسبة من بيت طيب، لكن ليس الواقع كالمعاينة، ففي الليلة الأولى التي غاب فيها عني، تمزقت أوصال قلبي، فاق أثر زواجه كل توقعاتي.

زُفَّ إلى زوجي نبأ سعيد بأن زوجته الجديدة تحمل في أحشائها جنينًا طال انتظاره، ازدادت سعادته التي ارتسمت آثارها على ملامحه، فبدا كشاب في مقتبل العمر، مرت الأيام وتحقق حلمه ، ها هو يحمل طفلا من صلبه للمرة الأولى ، بعد أن كان يفرغ عاطفته في حمل أولاد الغير ومداعبتهم.

مرت الشهور ومشاعري تتقلب كأمواج بحر هادر، الرضا والصبر تارة، والسخط والغيظ القاتل تارة أخرى، إلى أن مر على الطفل تسعة أشهر، يحبو أمام الجميع ويسلب قلوبهم، فعزم زوجي على أداء فريضة الحج بزوجته الجديدة، وكانت المفاجأة أنه استودعني طفله لرعايته رغم اعتراض زوجته.

ذهب الاثنان وتركا لي الأمانة، وقد كنت أرعاه وأقوم بدور الأم الحنون، إلى أن جاءت ساعة شردت فيها نفسي من عقالها، وقفز من كياني ذئب مفترس.

الطفل يحبو، يقترب من المجمرة، يوشك أن يضع يده فيها، شيء ما في داخلي يريد أن يكفه عن ذلك وينقذه، لكن ذلك الذئب بداخلي قد أسكت عواؤه كل همسات الضمير بوجداني، بل انتفضت من مكاني بكل قسوة ووحشية، وأمسكت بيد الصغير ووضعتها في المجمرة أضغط وأضغط.

هنا انتفضت العجوز وهي تحكي وخنقتها العبرة فهدّأ الرجل من روعها فسكنت ثم استطردت:

ارتميت على الأرض، وظل قلبي يخفق حتى كاد أن يقف، وأنا لا أصدق أنني قد ارتكبت هذه الجريمة، وأما الطفل فقد اختلط جلد يده بلحمها، وبكى حتى أصابته سكرة، فهرعت به إلى المشفى.

جافاني النوم، وكلما غفوت تراءى لي المشهد فسلبني النعاس، لا أصدق، ألهذه الدرجة تكمن الوحشية والقسوة في قلبي؟! ما ذنب هذا الرضيع وماذا جنت يداه؟ وزاد من ألمي اقتراب موعد رجوع أبويه، أخشى أن تفضحني نظراتي وتدل عليَّ.

دق صوت الهاتف، أمسكت بسماعته، استمعت إلى من يحدثني، ولم أستطع التحدث بكلمة واحدة، ألقيت السماعة ولم تقلني قدماي، وسقطتُ على الأرض ولم أشعر إلا وأنا في المشفى. أفقت وأخذت أبكي وأنتحب على آخر كلمات تناهت إلى سمعي في المكالمة الهاتفية، لقد مات زوجي وامرأته الجديدة في حادث مروع أثناء رحلة العودة.

تكاثرت في قلبي التبعات بموتهما بعد أن اقترفت هذه الجريمة البشعة بولدهما، وتدفقت في قلبي كل مشاعر الأمومة لهذا اليتيم المسكين، أفنيت عمري في رعايته، وكأنه قد خرج من رحمي، كان لي كل شيء، وكنت له كل شيء، وكان نعم الولد البار، ولكن...

عذاب الضمير لم يجعلني أهنأ بولدي وبرّه، فكلما أحسن إليّ تذكرت ما فعلته به، وأحرق ذلك فؤادي، وأحيانًا كان يسألني عن سبب ذلك التشوّه البشع ليده، فأجيبه بما ادّعيته في الماضي، أنني نسيت المجمرة على الأرض، فحبا إليها على حين غفلة مني، حتى وصل إليها ووضع يده بها، وأكتم عنه الحقيقة التي لا تغيب عني ساعة، وأحيانًا كنت أهم بمصارحته، ولكن أقول: حسبه ما لاقاه مني، فلن أحرق قلبه كبيرًا كما أحرقت يده صغيرًا.

فرغت العجوز من روايتها، والرجل لا يستطيع حجب دموعه، فإذا هو بالشاب، وقد أحضر لها الطعام والمياه وهو يقول في حنان: أمي لقد أحضرت لك المياه حتى لا تذهبي إلى المبرد بنفسك، ويمد يده المشوهة إلى أمه ليأخذ يدها ويقبلها ثم ينصرف.

وأما العجوز فانتحبت وهي تستغفر الله على خطيئتها، وترثي نفسها، فكلما همت بالتناسي لتنعم بذلك الشلّال من بِرِّ الشاب، حال بينها وبين ما تشتهي صوتُ الأجراس، أجراس الماضي.

 ا. عادل مناع 

جمهورية مصر العربية 

   مجلة العربي الأدبية 

ا. عادل مناع .. قصة قصيرة " أجراس الماضي "


التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

مجلة العربي الأدبية

2022