-->
مجلة العربي الأدبية مجلة العربي الأدبية
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

أ. أبيه بظاك.. القصة القصيرة " سلبَ الظلُ روحَهُ " -مجلة العربي الأدبية



" سلب الظل روحه "



كتب أ. أبيه بظاگ ّ

منذ أن اقترب موعد إطلاق سراحه وهو يستغرق في تفكير عميق منطويا على نفسه، تارة يحدث نفسه سرا، وتارة أخرى يحدثها بصوت مسموع، والسجناء يتهامسون بقرب جنونه.

 فليال عدة يبيت دون نوم عساه يستقر على شغل يوفر له عيشا ومسكنا ليتسنى له الابتعاد عن التسكع. 

غادر فريد السجن معاهدا نفسه على ألا يعود إليه، خاصة أنه قضى به جزءا غير يسير من حياته، لكن إلى أين سيذهب؟ فلا عائلة ستحتضنه حتى يستعيد توازنه، ولا مأوى سيستقبله غير شوارع الإجرام وأحضان المجرمين.   

تدحرج تفكيره بين مجموعة من المهن التي لا تحتاج إلى معرفة، ولا إلى جهد بدني، فقد انهكه السجن، وذهب بقوة شبابه. شاخ قبل الأوان.

عرج على مهن لن تضمن له إلا عيشا كعيش ذبابة في فرو خروف. أخيرا، استقر على أن يمتهن التجارة. اختار البضاعة، مكان التسويق،.. وبقي تائها في كيفية الحصول على رأس المال. رأى أن يعود إلى السرقة حتى يتأتى له جمع رأس مال يجعله منطلق تجارته. لكنه تدارك قائلا إن السرقة تستدعي السكر، والسكر أصل الخبائث وسبيل معبد للسجن. 

أخذ يحك مؤخرة رأسه وهو يبتسم هازئا من نفسه، بعدما بدا له أن كل ما خط في صفحة خياله مآله الإلغاء، وأن تفكيره في حيثيات هذه المهنة دون امتلاك أدنى فلس ضرب من التوهم. قال: كنت كالذي قضى ساعات طويلة في نحت رجل من الثلج ليتخذه معبودا، وما إن أنهى بناءه حتى انهار مقبرا عمله وأمله.  

نال العسر المادي من رغبته. أحس بانطفاء شعلة عزيمته. لا سيما أن البحث عن مصدر قوت أضحى كالبحث عن مسمار في كومة متلاشيات. فسوق الشغل شبه مقفل الأبواب في وجه تراكمات الشباب.

تخلى عن كل تلك الأفكار فارا من أوجاع أخذت تؤلم رأسه، وتخز قلبه، ومحاولا جر النوم لجفنيه ليطفئ نار الفشل التي تلتهم أعماقه. لكن النوم تأبى، فعاد مخاطبا نفسه: جعلت من نفسي مجرما، ومن السجن مسكنا، ومن المجتمع عدوا، ومن الناس ضحايا. وا أسفي علي، لقد صيرتني منحطا وضيعا! بل وحشا يفترس بني نوعه، دائسا على جثمان كرامته، ودافنا عزة نفسه في مقبرة الدناءة.

 وضع رأسه بين يديه وتابع مطرقا: فما تمنع الأفكار النافعة عني إلا دليل قاطع على تشبث حياة الشر بتلابيب نفسي، إنها لا تريد أن تفرط في أحد جنودها القساة الذي يشعل فتيل عدائه وقتما لطم ريح الحرية جمره، فيحمله دخان الجرم توا إلى زنزانته. تنهد ثم استأنف متذمرا: غير السجن لا مكان يأويني، ولا مقام لي أقيمه، ولا شغل أشغله. أضحى السجن بيتي، والإجرام عملي الذي أتبلغ به ما يسد شهواتي. آه يا سجن! يا عيش بلا كد ولا جهد. ووأسفاه على بلاد يشق فيها إيجاد عمل، وإن وجد فعمل كثير وأجر قليل. عذاب من أجل عيش مقيت، بل استعباد من أجل لقيمة حارة.  

 سرح في دروب الحياتين يجرد المزايا والرزايا. دخل أطول درب من دروب حياة خارج السجن، فبدا له نفقا مظلما لا أثر لنور الطمأنينة فيه، وفي آخره وميض خافت. 

  فمثلما كادت صعوبة الوصول إلى تمويل أن تقبر أمله في الانعتاق من ربق الإجرام، كاد إغراء العيش السهل أن يدفعه للاستسلام، فيرتد عن توبته، ويهدم أسوار حلمه. لكن رغبته في دخول معترك الحياة كانت أقوى.

أحس حينها بالنوم يداعب عينيه، لكنه نهض وجلس طاردا النوم الذي قرر أن ينوم تفكيره الذي بدأ يصحو من تخدير البلايا. 

  مرت من أمامه سيارة فارهة بسرعة جنونية يقودها شاب في مقتبل العمر، تابعها بعينيه إلى أن اختفت. عاد إلى نفسه يسائلها: شاب في العشرينيات على سيارة بعشرات الملايين، نعم، إنهم أناس يعرفون معنى الحياة، تقبل عليهم الحياة فتخيرهم في خيراتها، فيختارون أطيبها. انثال عليه سؤال: من أين له بكل هذا المال؟ أجاب نفسه: أنه الإرث. ففكر فيما ورث هو، فقال: أما أنا ما ترك لي أبي غير منزل ضيق لا يصلح إلا خما للدجاج. أنبه ضميره لو لم يبعه لوجد على الأقل مأوى يبعده عن الشارع. 

   رأى بأن يقصد أخاه الطيب ويستجديه مالا بعدما يسوق له مشاعر ندمه، ويعلن بين يديه توبته. لكنه تردد مخافة ألا يصدقه، ويعتبر ذلك تحايلا عليه واستباحة لماله من أجل سهرات ماجنة قد تلقي به إحداها وراء القضبان. 

   دفعه تخوفه للتخلي عن الفكرة لأنها غالبا لن تثمر، وقد يجني من تبعاتها ارتفاع منسوب العداء لأخيه وللمجتمع الذي ما إن يصدر أحكاما حتى يثبتها ويمتنع عن غفرانها. حدث نفسه: إن نظرات كل معارفي تهمس في أذني "أنت مجرم"، صفة علقت في نفسي وأثرت على نفسيتي، فأضحى التخلص من شبحها شبه محال. لكنه أحس بواعز قوي يدفعه، وبصوت داخلي يحثه، وبانشراح نفسي يحضه، وبدبيب بارد يسري في جسمه، قال بصوت شبه مسموع: ليس لدي ما أخسر، إن نلت مرادي سأسعى لرسم مشاهد حياة وردية تمحو أحداث سجل ماضي الدرامي، وإن طردني فسأعود مرغما لإتمام مشاهد الرعب على مسرح هذا المجتمع القاسي. 

    قرر أن يخلد للنوم ليستيقظ باكرا ويقصد متجر أخيه. افترش علب كرتون وتغطى بملاءة رثة وجدها بجانب العلب. ما إن تساقط على رأسه ندى الثلث الأخير من الليل حتى استيقظ يلعن الحرية التي هزه الحنين لها وهو على سريره بالسجن ينعم بالدفء. حاول أن يلف رأسه وينام قليلا، لكن البرد استمر في لسعه، علم أن ما كان يحمله على النوم في الشارع هو المخدر، جر رجليه تجاه صدره ليستجمع بعض الحرارة لمقاومة لسعات البرد القارص، لكن الأخير تلفع وصار يعضه بقوة. قام فجمع العلب وأشعل بها نارا وأخذ يستدفئ.

     دفع برد خفيف كيسا بلاستيكيا أسود فارتطم بفخذه. تناوله ووضعه على النار وأخذ يتأمل الكيس الذي تحلل إلى رغوة سوداء سرعان ما حولها النار إلى دخان داكن. تابعه بعينيه إلى أن بلغ نظره السماء العارية من السحب، فاستعاده، وأخذ يحرك النار التي أوشكت على أن تخبو. 

    تسلل نور الصباح من بين خيوط ليل بهيم، فهم قاصدا أخاه. ما إن وقف بين يدي الطيب باكرا من دون رائحة الشراب حتى تغيرت نظرته له، وزالت من بين عينيه عتمة ماضيه الأليم، فحدثته نفسه أنه انسل من براثن البلوى. أما أحد عماله الذي كان يشاركهما الحوار فسحب نفسه، وأخذ يحدثها: إن فريد وأمثاله مجرد ضحايا مجتمع أعيد تدويره في ماكينة زمن مادي لا يرحم، فتعاظمت شجرة أنانيته وتجذرت في أعماق أرضيته التي كانت حتى الأمس القريب منبتا لقيم نبيلة. 

    كان أفراد المجتمع لبنات تتراص لبناء صرح القيم المثلى، كان الجد، الجدة، الجيران،... معنيون بالتربية وبتقويم أي اعوجاج، لأن الفرد كان جزءا لا يتجزأ من الجماعة، وما ألم به سيضر الجماعة، وما آذى الآخر حتما سيمتد إلى الذات. أما الآن أصبح كل فرد لا يفكر إلا في أسرته، وأحيانا منشغلا عنها بنفسه. لقد استنزف العمل وقت وجهد الرجل والمرأة على حد سواء. غدا كل واحد أسير أناه.

    لقد بنت الأنانية جدارا عازلا بعد بين المتقاربين، ونفرت المتباعدين، واستنبتت بذور العداء بين المتخالفين. لقد فككت هذا المجتمع الذي أقبر ردحا من تاريخه بدعوى التخلف، وركب موجة الغرب ظنا منه أنها ستوصله إلى بر التحضر، لكنه وجد نفسه غريبا في جزيرة التيهان تتقاذفه أمواج الأهواء، لا هو وصل مبتغاه ولا هو بقي في سواحل ثقافته. 

  ما أحوجنا إلى تنشئة الأمس حيث الكبير يلعب دور الأب والصغير دور الابن، والمحيط بيت ممتد مليء بالحنان والأمن والأمان وخال من الذين يتحينون أي فرصة لسلب الظل روحه.

    أعطاه أخوه فوق ما طلب وابتسامة ود صافية على وجهه، ثم ناوله مفتاح منزل غير بعيد عن المحل ونظرة دهشة تكاد تمزق عينيه.

    ولج المنزل وجلس بهدوء على حاشية أريكة بلون السماء وهو يتأمل البيت الفسيح ونسيم الراحة يخالط جسده. 

    بعدما أتمت عيناه دورة كاملة في البيت، أغمضهما فانثالت على ذهنه صور الذين لهم حقوق عليه واقفين أمامه في صف طويل يحملون أدوات القصاص. تقدم نحوه الذي يقف في رأس الصف وهو يحمل سكينا كبيرا، فقفز جاحظ العينين، فلم يجد أحدا، جلس فسرح خياله في تلافيف ماضيه القريب فبدأت مشاهد مروعة تتكور أمام عينيه. أحس بسخونة تنتشر في كل جسده، وبمغص في قلبه الذي كان مقبرة للرحمة ومنبتا للقسوة، وبوخز في رأسه الذي عطلت المخدرات ملكاته وأدخلته في غيبوبة طويلة. غرقت عيناه الهامدتان في بركة دمع سرعان ما انساب على خديه، أحس بيد تمسح خديه نظر أمامه فإذا بها يمناه المزركشة بوشم أزرق ممتد إلى كتفه يخفي خدوشا غليظة.

    انفلت ذهنه من جحيم شبابه، ودخل إلى جنة صباه. تذكر حينما كان ذاهب رفقة والده إلى المسجد فلحظ طفلا في سن المراهق يزفر ويشهق في كيس بلاستيكي يحوي سائلا أبيض، فرفع عينيه فإذا بوالده يرتب شعر لحيته الكتة بيمناه. سأله عن اسم تلك اللعبة التي ينفخ فيها الطفل، لكن أباه نهره تفاديا للحرج الذي ستسببه له الإجابة. ولما ألح عليه أجابه قائلا: ستعرف عندما تكبر.

    تمنى لو كان كبيرا حتى يتأتى له لعب تلك (اللعبة).

  أ. أبيه بظاك ..

المملكة المغربية 

   مجلة العربي الأدبية 

أ. اليه بظاك .. القصة القصيرة " سلب الظل روحه "


   

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

مجلة العربي الأدبية

2022