-->
مجلة العربي الأدبية مجلة العربي الأدبية
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

د. هالة محمود .. دراسة سيمائية لديوان " الزنبقة البيضاء" للأديب اللواء أسامة فرج -مجلة العربي الأدبية



 دراسة سيميائية لديوان "الزنبقة البيضاء"

 للواء الأديب أسامة فرج




كتبت د. هالة محمود :

في مواجهة زمن جُرج فيه الأمان، وتأزم فيه السلام، وتصدع جسم الإنسان بأعراض المرض العضوي والنفـسي، وانفتـح الواقـع على مصراعيـه على كل ما جعـل الإنسان يُهان، يضع لنا سيادة اللواء الأديب أسامة فرج بين أيدينا ديوان "الزنبقة البيضاء".

العنوان عتبة استهلالية للديوان موازية بها من السيميائية الرمزية الكثير، فتلك الزنبقة لها أسماء عدة، وكلها دلالة على روعة اختيار الاسم لهذا الديوان، من أسماء تلك الزنابق المزهرة دائمة الخضـرة طـوال العـام، المعمـرة "زنبق السـلام Peace Lily" و"الأشرعة البيضاء، الموفرة في استخدام الضوء والماء، متعددة الألوان وأشهرها الأبيض، بذلك هي تعد من أفضل النباتات المنزلية التي تنقي الهواء لمن يحيطون بها، تنقي الهواء من ملوثات البيئة كالبنزين والميثانال، لكنها كي تزهر تحتاج إلى الجو الدافئ.

ومن خلال مواصفات الزنبقة نجد أن اختيار العنوان كان موفقًا جدًا، فما يحيط بنا يحتاج أن يوجد في حياتنا شخص تتمثل فيه الزنبقة البيضاء فيه، يحيطنا بما يعادل ويواجه كل هذه الضغوط علينا، يعانق معنا كلمات الديوان بوصفها حلًا منقذًا يمرَّر منه الخلاص لما نمر به، فإن كانت الضغوط خارجية فالحل داخلي بأجسادنا، وبمن نختاره ليتربع على عرش قلبنا، وإن وجد هذا الشخص أو هذا الحبيب سوف يجعلنا نكتب بصورة غير درامية.

فتأثير ما يحدث في زماننا يكون على أجسادنا بينما الحل في أرواحنا، فكلما كان الضغط شديدًا علينا تولدت العبقرية بموازنة عالية تساعدنا على التفاعل في صيرورة لنخوض ونواجه، أو تتيح لنا الانفصال بفكرنا وبيدنا القلم، وهذا يجعلنا نتحرك ونتعامل وكأن أجسامنا سليمة وأرواحنا تتجه للحياة ببساطتها ومباهجها بتجاهل سر زماننا المأتمي.

ديوان "الزنبقة البيضاء" يحتوي على 54 قصيدة، بينها قصيدة واحدة كانت كحكمة بالغة المعنى جمالًا، عنوانها "لم نعد نعرفنا" يقول فيها الأديب الشاعر أسامة فرج:

حين نتلاقي بعد طول غياب

يظن بعضنا أننا ما زلنا نذكرهم

كيف السبيل وقد حفر الزمان

خطوطه على ملامحنا؟

حتى أننا لم نعد نعرفنا

تلك الأبيات ذهبت بنا إلى التأملات الفلسفية، ففي زماننا طغت حيل الضغوطات على التمعن في ذاتنا حتى إننا لم نعد نتعرف علينا بماذا نسعد، وبمن نسعد، وكيف نسعد؟ والإسقاط الفلسفي هنا كان في زاوية المعنى التشاؤمي الذي يولد الحزن عن الرومانسيين من الكتابة، وقد استعمل أديبنا أسامة فرج الرمزية التي استعملها هيدجر "والوجوديون" الذين يعدون الحزن وما شابه نمطًا من الوجود الإنساني والذي يتعلق معناه بالاغتراب والذي يدعو في قصائد أخرى لمقاومة هذا المعنى.

ثم نجد أن القصائد التي خرجت من الذات المتأثرة الرافضــة معظـم

السلبيات التي تحيط بنا كان عددها 12 قصيدة، وهي جميعها تقاوم الحزن بزنابقه البيضاء التي ظهرت في الدعوة لاعتناق الأمل والكلمة الشعرية الشعورية، فالوجود الشعري وتعبيرات القلم هي المناوئ الحقيقي القوي لمواجهة الضغوطات والحزن، وتجلى هذا في قصيدة "صهوة القلم":

امتطيت صهوة القلم..

وأطلقت له العنان..

فجمح.. وما أعلن العصيان..

وما أستكان.. وما جرح

بل أتاني طائعًا يسطر

ما يجول بخاطري فما

شرد منه حرف.. ولا شطح

وتواتر الحرف..

فما زاغ منه القلم ولا سرح

القلم هنا بحروفه جعلني أشعر أنه امتطى دور الحب الأمومي، الذي يخرجنا من الظلمة ومواجهة المجهول فيكتب كل ما يجول بخاطر ممسكه، ولا يشـرد منه أبدًا بل هو قلمٌ مقاومٌ، بسلاسةٍ يُخرج ما بداخلنا على الورق وينقي الروح مما يضغطها، فنشعر بالأمل وننتظره.

أما القصائد الرومانسية فقد استحوذت على أكبر عدد في الديوان 40 قصيدة، تنوعت بين البحث عن الزنبقة البيضاء التي ستكون السند في الحياة الصعبة، والتي تساعده وتنقي أجواءه من أي شوائب تفسدها، وتكون اقتصادية لا ترهقه بكثرة المطالب في زمن شح فيه كل شيء مادي ومعنوي، وبين فرحه حينما وجد تلك الزنبقة، وكيف حافظ عليها ورواها بكل ما تحتاج كي تظل سليمة تؤدي دورها معه حتى النهاية، اختارها زنبقة لأنها معمرة، لأنها تعطي طوال العام، تعطي طالما تدب فيها الروح، لا تتساقط أوراقها ولا يهزها ريح الخريف، زنبقة حولت الحياة حوله لفصل واحد "فصل الربيع" كل أيامها ربيع، فقال في قصيدة زنبقة بيضاء:

آه يا قلب آه

كم أحببت تلك الزنبقة البيضاء

في عينيها طهر ووداعة

في بسمتها رقة وسعادة

وفي خطوتها خفه ورشاقة

أنفاسها استحالت عطرًا

يملأني عبيرًا وشوقًا

هواها ملء نفسي

أحبها لأنها زنبقة، لكنه أيضًا أحبها لأنها بيضاء، والسيمائية الرمزية للون الأبيض تتجلى في أنه لون النقاء، والبراءة، يشير إلى الضياء بدلالة معاكسة للون الأسود الذي أحاط بمعظمنا، لون يتوافق مع السلام والخير، يشحذ طاقات البدء والتجدد والحياد والكمال والإتقان، اللون الأبيض لون النظافة وخلو المكان مما قد يعرضنـا للمـرض العضـوي أو النفـسي، ومحبو اللون الأبيض لديهم من الثقة بالنفس الكثير، وتظهر هذه الثقة في التعامل مع الآخرين مهنيًا واجتماعيًا، فتجد أن محب اللون الأبيض ينجح في عمله ويؤثر على من حوله فيكونون مثله، كما أن اللون الأبيض هو لون الحكمة، محبه وصاحبه لا ينطق إلا بالعقل، يستشيره كل من حوله لثقتهم فيه أنه قادر على حل المشكلات مهما تعاظمت، هذه الشخصية وجدها في حبيبته فكتب القلم وشدا حبًا وعشقًا لها.

كتب أديبنا أسامة فرج عددًا كبيرًا من القصائد الرومانسية في هذا الديوان لأنه يرى الحزن جليًا في عيون الكثيرين، ولأننا في مجتمع يشكو قاطنوه من تغير الحالة المزاجية والنفسية لديهم، والسبب يعود إلى عوامل بيوغرافية، أو مشاكل دينية، أو اجتماعية، وقد تكون علمية، المصابون بهـذا التغـيــر النفـسي هم الأشخاص شديدو الحساسية، والطيبة، والرومانسية، هم الأشخاص الذين يتمنون العيش في المدينة الفاضلة، فإذا مروا بما يعكر عليهم صفو حياتهم يتعكر مزاجهم ونفسيتهم فيميلون إلى العزلة مع القلم، وقد يكون هذا ما حدث مع أديبنا أسامة فرج، العاشق لكل شيء سوي، المحب للزنابق البيضاء بكل ما تشير عليه تلك الرمزية، وبدلًا من الاستسلام إلى الشكوى من تأثير المجتمع حاليًا على الحالة النفسية له بعدم تقبل المجتمع بما أصبح عليه الآن انزوى مع زنبقته البيضاء ممسكًا بالقلم يسطر لنا أدبًا من نوع خاص، يتأمل فلسفيًا وشعريًا وأحيانا أموميًا من زنبقته التي يحبها، وأوصل لنا هذا برمزية سيميائية عالية ظهرت في معظم قصائده، فقال في قصيدة "ليل ونجم وقمر":

كم يمضي العاشقون ليلهم في السهر

يعشقون بجنون ويناجون القمر

يبثونه لواعجهم لعله لهم قد ينتصر

فهو أحن عليهم من قلوب البشر..

يداعبون النجوم يحلمون في السحر

يناطحون السحاب وينتظرون أن

تأتيهم منه زخات المطر

لهذا الديوان رمزية خاصة، الصور فيه لها امتداد إشعاعي خاص بها، لها فنية عالية، تتمتع بمستوى رفيع من الحساسية والحدس، يشوبها الحزن حتى في كلام الرومانسية، قلما أقرأ تعبيرًا رومانسيًا له وأجده بحرفٍ يتراقص فرحًا، ورغم ذلك يحيط حرفه المعاني كلها بدفء يأسر قارئه، سيطر على القصائد الطابع الرمزي السيميائي المنثور أحيانًا بصورة إيقاعاتها أيضًا رمزية، الرمزية تشير إلى وعي الكاتب بالكتابة وكيفية استخلاص الدلالات الرمزية التي يستعملها، وجمعت القصائد بين طبقتين حضـرتا في أعماله الشعرية رسختا المعنى الباطني المضمر للعملية الشعرية فظهرت كأنها دفقات داخلية تركت أثر الاستسلام للإرادة والحواس واستخدام الغموض الشفاف، الطبقة الأولى كانت "كيمياء الصور وتضافرها مع المعنى الباطني للرمزيات"، والثانية "عملية مزج رائعة الجمال بين العبارات المنتقاة والصور المستخدمة المضفرة بالرمزيات"، ومن هنا حكمت على الديوان بأنه وصف شعري خُلِقَ من الجمال المنغَم الطارح لموضوعات عن الحقيقة الذاتية.

الرمزية بالديوان سارت في ثلاثة اتجاهات، منها الغيبي كما في قصيدة "سأرحل":

سأرحل عن هذا العالم سأبحر في دنيا الخيال

سأرتحل قاطرة الليل وأداعب النجوم والقمر

سأراقص قطرات المطر سأغوص بحور الجمال

بحثًا عن عالم ثاني فزمانكم ليس بزماني

ومنه ما هو باطني مثل قصيدة "شوق":

حبيبتي أنا أيضًا أشتاقك

أشتاق عطرك وأنفاسك

وقبلة أضعها على شفتك

وضمة حنان إلى صدرك

وإلى عزف على أوتارك

وأن أرسم على جسدك

وشم أضعه على ظهرك

حروفه من قلبي وقلبك

وثالثه اللغوي مثل قصيدة "أحكام":

نقذي ما شئتِ من أحكام

وأفرغي غلك في اللثام

وحطمي الضلوع حضناً وهيام

فالشوق حبيبتي لهيب وغرام

لا تستطيع أن تقتله الأيام

سيراودنا حتى في المنام

الرمزية في الشعر ما هي إلا مترجمًا لما بداخل بطن الشاعر، أي ترجمة للمضمر، فلا يمكن أن تبنى الرمزية من الخارج وإلا ظهر فيها التكلف، ودعم كتاباته بأسلوبية تكاد تكون السهل الممتنع، لها مضمونية متشابهة في القصائد ال 40، كان هنا تكرار لبعض العبارات لكنه كان بشكل إيقاعي موفق، مع استعمال القافية والتضاد والمقابلة والحوار كما في قصيدة "من أجلك":

هي: خذني إلى أعماق قلبكَ

وأحجب عني بريق عينكَ

فلا يمكنني مقاومة سحركَ

فأنا لم أحب أحدًا من قبلكَ

ولن أحب أحدًا من بعدكً

سأموت وأحيا من أجلكَ

هو: سأعود طفلاً من أجلكِ

أو نطفة يحملها رحمكِ

ليكون ميلادي على يدكِ

ننهي تلك الدراسة بقصيدة كُتِبَتْ خصيصًا للأم بعنوان "الجوهرة النادرة":

كم كانت قاسية تلك اللحظة

حين أودعت الثرى وفقدتك للأبد

فملأ الدمع الكرى

سأحكي لكِ عما جرى

عندها أظلمت الدنيا وأنكسر الزجاج

وتطايرت الشظى

هل كنتِ تشعرين حقًا بما جرى..

وأنت ترقدين في سلام

ووجهك ضاحكًا مستبشرًا بما يرى..

أحببتِ لقاء الله

فأحب الله لقاءك

ما زلت أذكرك أمًا رؤوم

وقلبًا حنون

بمعرفة الذات ومتطلباتها قد يتحقق شبه الكمال على أن نُقْرِن تلك المعرفة بالقدرة على التغيير، وتكون الحقيقة الإنسانية مختبرة بعمق.

شاعرنا اللواء الأديب أسامة فرج يعلم ذاته جيدًا، يعلم معطياتها وعملها وبرهانها، دقيق بوضع النقاط على الأحرف المنتقاة، واسم الديوان قد أوقفنا طويلًا على السبب المضمر المهيمن المحرك للقلم لكتابة قصائده. طاوعت الشاعر حروفه، فكتب بقلب طفل يافع وشاب هرم، خليط من المشاعر وصف بها الأزهار والشوك المختبئ تحتها. رسم لنا بكلماته ما يقبع خلف ابتسامته التي لا تفارقه.

فقد كان الموت والفقد، فالموت يحدث داخل الحياة ويحدها، ويحدث في الزمان داخل العالم الموضوعي لا داخل الذات أو الوجود الباطني المضمر، وقد كان لموت وفقد أمه في لحظة مباغتة مفاجئة سببًا قويًا استطاع به العيش شعوريًا بالوجود الموضوع البيولوجي داخل الزمن الذاتي الذي لم يفارقه، فبعد 27 عامًا من لحظة الموت والفقد، ما زال يعيش ذاتيًا داخل هذه اللحظة، فتلك اللحظة اجتمع فيها صراع رهيب بين الحق واللاحق، الحضور والغياب، الانتماء واللا انتماء للشعور، هذا المزيج أخرج لنا تلك العبقرية الأدبية.

سعدت بقراءة الديوان والعمل عليه، وإلى إصدارات قادمة إن شاء الله.

تحياتي للواء الأديب أسامة فرج.

هالة محمود أحمد

رئيس مجلس إدارة

النوارس للطباعة والنشر

وعضو اتحاد كتاب مصر

 د. هالة محمود

جمهورية مصر العربية 

   مجلة العربي الأدبية 

د. عالم محمود.. دراسة سيمائية لديوان " الزنبقة البيضاء " للأديب اللواء أسامة فرج



التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

مجلة العربي الأدبية

2022