الأوزان الشعرية والنغمات اللفظية
كتب أ. محمد الدليمي :
كنا قد تطرقنا إلى أصول لغتنا العجيبة ؛ فقلنا إنها مكونة من كلمات نحو لا أله إلا الله ، الحمدلله ، سبحان الله ، فما إن قسمتها ضاع معناها وتبدل لفظها من ممزوج أو إضافي إلى فردي لا يعني الكلمة ، بل تحول إلى لفظ يستقيم فيه الكلام .
الكلمات لا يستطيع الإنسان إيجادها لإنها وضعت بأحكام لتعتني بالمعنى وتجعله طلقا مبتعدا إلى ما لا نهاية في معناه . والقسم الثاني الألفاظ نحو الزواج ، الباطل ، الأعمى ، البصير ، وهكذا فكلها ألفاظ تحمل في داخلها ألفاظ ،و ألفاظ المعاني، ولفظ المعنى الحقيقي ، وألفاظ معنى المعنى ، لفظة الزواج لها ألفاظ : الخطبة ، الكتاب ، النكاح ، الطلاق . والباطل من ألفاظه : الكذب ، تعدي حدود الله ، الكفر ، النار . الأعمى من ألفاظها : فقد عينيه ، الجهل ، الكفر . والبصير من ألفاظه : العلم ، الهدى ، الإيمان ، الجنة .
والقسم الثالث ألفاظ المعاني نحو الزواج ، والشهادة ؛ من ألفاظ المعاني للفظة الزواج هي : المهر ، حسن الخلق ، المتعة . ومن ألفاظ المعاني للشهادة : الصلاة ، الزكاة ، الصيام ،الحج ، اليوم الأخر . والقسم الرابع لفظ المعنى الحقيقي نحو الزواج ، والشهادة ؛ ومعنى الحقيقي للزواج : النكاح ، والمعنى الحقيقي للشهادة : زكاة النفس . أما القسم الخامس ألفاظ المعنى المعنى هو الصورة التي انتجتها كل من الألفاظ وألفاظ المعاني ، والمعنى الحقيقي .
لغتنا العربية لغة عظيمة ورصينة ، لغة القرآن المجيد ، وجميع الكتب السماوية والصحف الكرمة ، أنزلها الله مع آدم عليه السلام لتكون له حرزا وكتابا هاديا ، ورفع بها القوم العربي الذين اتخذوا منها اسما لهم ؛ وفي الحقيقة هي من أوقعت اسمها عليهم ، فكانت محض مكانة عليا عند العرب وهي أحدى المقدسات بعد قبلتهم .
مرة القرون وبدأ الإنسان بالتطاول عليها ، وهو خائف يتربص بها أن لا ترسل إليه لعناتها ، فكانت هي عنفوان العرب وعزتهم وكبرياءهم ، ولا يتكلمون بلغة أخرى إلا ما كان لبعض شأنهم ، ( هذا في بداية نشأة الإنسان ) ، ومرة القرون مرة أخرى وتباعدت في الزمان ، وتطاول العرب على لغتهم لضعفهم وقلة حيلتهم ، فظهرت اللهجات ،ولغات الأقوام ( في زمن انتهاء حضارات العرب في القرن الأول قبل الميلاد ). ومرة القرون مرة أخرى وتوحد العرب ورجع لسانهم القويم وطمست تلك اللهجات واللغات ، واستقام لسان العرب على لغة الضاد ، ورونقت ألفاظها وعلا شأنها وشأن قومها واستقام الحال ( زمن صدر الإسلام وما تلاه من أزمن ) ، حتى تخاذل أهلها عن لسانهم القويم وبدأوا يقلدون الجواري والأعاجم بكيفية النطق ، لشدة نعومة حسن الجارية وشدة حلاوة صوتها في نطق اللفظ الغير صحيح ( زمن سقوط الدولة الإسلامية ) ؛ هذا الأمر انتشر بسرعة الضوء عندما تسفه أهلها مع اللغة ؛ وفي رونق اللغة وعزتها كانت العرب تعيب نطق هذه الألفاظ ، وتعيب على الأعراب مخارج حروفها ، وتعيب على الأعاجم بعدم فهم لغة العرب ؛ هكذا كان أعتزازهم باللغة ؛ هكذا كان دفاعهم عن لغتهم ليزدادوا فيها قيمة وعزا .
خذلهم الله كما خذلوا لغتهم العزيزة ، استعملوا بعد خذلانهم اللسان العجمي ، فلن ينفكوا عن مذلتهم، لألف سنة خلت أو ما يقاربها وهم إلى هذه اللحظة لا يعلمون لماذا !؟ والأجابة من كتاب الله قال تعالى ﴿ ولا تكونوا كالذينّ نسوا الله فأنساهم أنفُسهم أولئك هم الفاسقون ﴾
ألف سنة يبحثون عن العزة ولن يجدوها ، وهي أقرب إليهم من حبل الوريد ، سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، وأقول للجميع ليتنا نتعلم العربية ، ليتنا نتدبر آيات الرحمن ، ليتنا ندرس كتاب الله دراسة لغوية لنظهر الحق ، لنظهر ما كنا نبحث عنه ، لنظهر ما نريد فهل من مجيب !؟ .
تعمدت أن تكون هذه المقدمة لمقالي عن النغمة المفردة وتطابقها مع نغمة البحر ، فكلنا يعلم إن القرآن الكريم هو الكتاب المعجز في جميع ما يحتويه من علوم ،وأداب ،وفنون ، وكله تحتويه التورية ، وهنا يظهر عليها التطور اللغوي الذي تعاد فيه القراءة بين حقب الزمان وهو المطلوب .
ويبقى لدينا من الدراسة اللغوية نطق مخارج الحروف، ويرمز لكل حرف بقوة صوته ،أو توسطه ،أو ضعفه ، وتظهر النغمة على اللفظ الذي يسبك مع أخوه من الألفاظ فتجمع على نغم واحد ثلاثة ألفاظ أقصرهن جمعا إلى تسعة ألفاظ أطولهن جمعا ، هكذا فهمت العرب الشعر وهكذا أوجد بحوره الخليل أحمد الفراهيدي الأزدي، لولا إني أحب أن أقول جاءته إلهاما من الله سبحانه حسب ما ورد عن الرؤيا التي قصها في كتبه .
وزن البحر يمثل استقامة المعنى صدرا وعجزا ، هذا من ناحية وكذلك عدد الألفاظ في البيت الواحد على نغم البحر يتم بهم المعنى ، فالبحر بنغمه يساوي المعنى بألفاظه ، فكل نغم له ألفاظه المحتومة ، فكلما أزداد استخدم الزحافات قل معنى البيت، وقلة سماكة السبك بين الألفاظ . فالوزن هو النغم الذي يظهر الصوت فعند حذف صوت أو استبداله بصوت أخر كأنك تنزل أو تصعد في النغم أو تحذف من التون ، هنا يجب أن يعلم الشاعر أو الناقد معنى الزحافات هو التغيير في تون النغم ، فيظهر بالخفاء الشذوذ ولا يستطيع إيجاد هذا الخلل إلا من كانت له أذن موسيقية عالية الجودة ، أما إذا كان التبديل او الحذف في حروف الأستعلاء واستبدلها بحروف مهموسه او متوسطة فهنا سيصبح نغم النغمة المفردة مضطربا ويتضارب مع نغم البيت فيحدث ضجيجا في القراءة واضطرابا مع المعنى أي كان المعنى عالي الدلالة وتوسطه هذا الأنخفاض وبعدها يرجع عالي الدلالة ، هنا سنقف وقفة مع مثال النغمة المفردة : ناااااار طارت بشرارها ؛ نار سارت بلهيبها . فقط هذا المثال للرمزية التي تدرس في كيفية لها دلالة في نطق الحروف وأنظر إلى التركيب الأول من قوة الحدث فبدأنا برمزية قوية ومن ثم مخارج الحروف وقوتها فهي موازية للرمزية في مثال اللفظة الأولى ، ومن ثم الأخيرة فكلها متساوية وكلها عالية المخارج فمن المؤكد معناها قوي يدل على قوة الحدث ؛ والمثال الثاني ألفاظه متوسطة الدلالة ومخارج حروفها متوسطة والدلالة على حدث متوسط . فلو أبدلنا اللفظ الثاني في المثال الأول مع اللفظ الثاني في المثال الثاني ، لضطرب المعنى من متوسط إلى عالي إلى متوسط ومن المؤكد الذي ليس له خبرة أو أذن سماعية ضعيفة لا يمكن أن يفرز ذلك النشاز ، وربما يمر الناقد على ذلك الحدث من دون مراعاة اللفظ الناشز . وفي تطور التكنلوجية يسمى الطيف الصوتي في ( معامل علم الصوت ) فيكتشف الناقد الحقيقة كاملة ؛ أضافة إلى العامل الحسابي لمقاطع الأصوات ، فيعادل الأحتساب ما بين الصدر والعجز ، ليكتشف الناقد لما ذهبنا إليه في قولنا إن الزحافات هي ضعف في القصيدة لينتج لنا ضعف في المعنى ، مما يسبب خلل في العامل الحسابي لمقاطع الأصوات .
هذا الخطأ يقع فيه الشعراء بجملتهم إلا ما ندر منهم ؛ لأنهم لم يدرسوا الرمزية في الشعر الجاهلي أو العباسي على الأصوات أو لربما البعض القليل منهم درسوا الرمزية دون الأصوات والعكس صحيح ، فلابد من دراسة الرمزية مع الصوت مع سياق الكلام ومعناه المبتغى .
تجدر الأشارة هنا لحقيقة تطابق النغمة المفردة ، مع نغم البحر ، هو ايجاد معنى قوي يستمد من التطابق ما بين الأثنين . ولكل نغم البحر معنى مختص به ، فلا يغرنك قول الشاعر في ذات المعنى يأتيه على عدة أبحر من الشعر ، ولو تفحصنا ذلك سنجد برع بأحدهن وتدرج في الباقي ، وهذه دلالة حقيقية لا شبهة فيها ، وكذلك إن عدد حروف اللغة تسعة وعشرين حرفا معدة على ألفاظ لا تحصى ومعاني لا تنفك من سبحها في الفضاء ؛ ولكن النغمة المفردة هي من أحصرت المعنى في نغم البحر ، ولو رجعنا إلى نغم البحر لوجدناه متساوي الأطراف في نغمه وهذا هو المطلوب .
كان هذا المقال لمن يقول الشعر على ابحر عدة في نفس المعنى ولا يفرق فيما بينها في المعاني .
وربما نظر إلى الأدب الجاهلي ، ورأى القصيدة وهي تبنى على بحر واحد وقافية واحدة ويقول فيها الشاعر عدة أغراض مبتدأ بوصف الأطلال وثم الغزل إلى الفخر ثم المديح أو الهجاء ؛ ولكن الناقد نسى الغرض أو القصد الذي جمع جميع مقاصد القصيدة.
وهذا الأمر نسي من الجميع بل لم يراعيه أحد ، ولم أجد دراسة واحدة أعتنت بمقاصد القصيدة والقصد الذي قيلت فيه القصيدة الذي جمع جميع مقاصدها .
فنحن جمعنا خمسة أغراض في قصيدة واحدة ونسينا لما قيلت ؟ ولما أرادها الشاعر ؟ ليرفع علوها بين القصائد . الأجابة هنا يجب معرفة حياة الشاعر والحالة الأجتماعية للقبيلة ، ومن ثم نفهم الترابط بين المقاصد ، وإلى ما هو يرمي في جمعهن !؟ فهل أراد النسيب ،أم أراد الفخر ،أم أراد الرثاء والبكي على الأطلال !؟ كلها مقاصد فهل جمعت لقصد واحد ؟ والجواب نعم لكل قصيدة قصد قيلت فيه وقوة الترابط والتناغم ما بين الأغراض هو حقيقة القوة في القصيدة الذي يلعب عليه الناقد الذكي . وأمرأ القيس قال قفا نبكي ووصف الغزل والبحر لم يكن صالح للغزل فنرى قوة الألفاظ وقوة مخارج الحروف لا تناسب الغزل ولكنه أظهره على شكل عتاب لتلك الأيام التي قضاها بحلوها وروعتها ومرارة الحب وزهوه فيها ، وقد غادرته الأيام من دون رجعة ، وهنا أين الغزل الذي يحتاج إلى سرعة وسهولة مخارج الحروف ؟ .
فمن هنا كانت أجابتي لجميع الأساتيذ الذين أقدر سعيهم في فهم القصيدة العربية ، إلا إني وجدت موضوعا جديدا يستحق الأهتمام ألا وهو رمزية الالفاظ واصواتها في القصد الذي قيلت فيه ليتبين الغرض الحقيقي من القصيدة . اتمنى مراعاة هكذا موضوعات كبيرة تجدد لنا دراسة القصيدة العربية من جهة ، وترفع قيمتها الأدبية بأضافة موضوعا جديدا في دراستها .
عذرا لجميع الأساتيذ النقد والشعراء إن قصرت في المطلوب لأن المقال موجز عما نريد توصيله وتوضيحه في قول الشعر .
مقتطفات من كتاب ( بلاغة الشعر ) في قول الشعر .
أ. محمد الدليمي
العراق
مجلة العربي الأدبية