-->
مجلة العربي الأدبية مجلة العربي الأدبية
recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

أ. عادل مناع .. نص " من بريد المنفى " -مجلة العربي الأدبية



" مِنْ بريدِ المنفى "


كتب أ. عادل مناع:

قابِعًا في منفايَ الاختياريّ، تنثني أضلُعي على الذكريات، أكتبُ إليكِ مُتعثرًا بنبضي، بخفقانِ قلبيَ الموبوء بالحنين، أشُدُّ بيدي على قلميَ المُرتعشِ كعصفورٍ مُبلَّل.

أتدرين حالَ من يكتبُ الرسالةَ الأولى باضطرابِ المبتدِئ، ويكتب الرسالةَ الأخيرةَ بشجنِ المُودِّع؟ أنا هما معًا يا إلياذةَ العمر.

 أنا ذلك الضائعٌ في المسافةِ بين سنِّ قلمٍ محمومٍ بالاشتياق، وورقةٍ أعياها صقيعُ الانتظار، يستوقفني تزاحم الأفكار، تدافع المشاعر، رغبةٌ جامحةٌ في أن أجمع شظيات المعاني في مفردة ناطقة، فدعيني أهذي في ليلِ منفاي، وليلُ المنفى لو تعلمينَ طويل، لا يرقُّ ثوبهُ ليتكشّف عن ضياء، إلا بموتِ النجومِ في أعينِ الساهدين.

دعيني أقتصُّ من صمتي، وأُوقدُ من وَلَهِي على حرفي، لعلّ بعضَ البوْحِ يستعيرُني برهةً من نفسيَ البعيدة، قبل أن توقظني أشباحُ المنفى من جديد.

أتيتِ كنبوءةٍ قديمة، تبثُّ طلائعها في كلِّ سلائلِ وجداني، البدايةُ كانت أشبهَ بلوحةٍ اجتمع فيها شتاتُ الجمالِ الغائرِ في الأزليّة، أعياني تفسيرُ هذا الحنين، وكأنني خُلقتُ من ضلعكِ الأقوم، غابت عني كلُّ الصور، إلا مشهدَ أرجوحةٍ بين غيْمتين، تَسَيَّدَ كلَّ أوصافي.

لم تعد هي الروحُ التي شابهت ذاكرةَ الصيّادين المُعبَّأةِ بغدراتِ البحر، غدَتْ مشاعري كجديلةِ حسناءٍ مكحولةٍ بدُهنِ الشمس، بعد أن كانت كأخلاط أوراقٍ، لا تنتسب لأشجارها، جاءت مَنْ تُسقيني شراب اللازوردِ من عينِ السماء، من يتندّى بطلعتها عُشبُ روحيَ المُتصحِّرة.

تعالي لنكتب الحكاية، فالمدُّ أروى القلم، ينتظر أن يُباهينا بصَرِيفِه، والنصُّ مدبوجٌ بأمنية، يوشك أن يتورّدَ كوجْناتِ الصبايا في ليالي العُرس.

جمَعَنا صمتٌ طويلٌ، مُشرعةٌ نوافذهُ على مسالكِ التأويل، وتلك فضيلةُ السكوت، يمدُّ في عمرِ الأمنيات، ويتيحُ المناجاةَ من طرْفِ الخفاء، إلى أنْ شقَّ أمدَ الصمتِ ساعةُ بوحٍ، كانت كفيلةً بإخضاع ما كان وما هو كائنٌ وما سيكون، تحت مِقصلةِ الواقع.

هنالكَ اشرأبَّ عنقُ المستحيل يُطلقُ ضحكاتِهِ الماجنة، معلنًا هزيمتي وظفرَه، تصاريفُ القدر ليست سفنًا يُجريها الاشتهاءُ على صفحةِ الماءِ في غيابِ الرياح.

الحكمةُ التي سوّرتُ معصميها بأغلالِ الشغفِ تعذِلُني، لمْ أُراعِ فرقَ توقيتِ النبضات، التمستُ الصعودَ إلى الثريّا في أعمدةِ الدخان، كتبتُ جزءًا من أمنيتي على صفحةِ الماء وآخرَ على ظِلّي، سوّلت لي أحلامي أن محبةَ الطير تمنحني أجنحةً، وأنّ التعنّي في البدايات تعقبه نهايات سعيدة، كلُّ شيءٍ كان مُعَدًّا للقاء سوى كلمة قدر.

هجوتُ خطيئةَ قلبي، أقمتُ على حُلميَ مأتمًا وحدادًا من ألف زفرة، ارتجزتُ في رثاء خديجِ الأمنيات، تكوّرتُ في ظلمتي وصمتي، أسائلُ السحابَ الذي أعرتُهُ جفْنَيَّ ولم يُغثْ جَدبي.

لا تثريبَ عليك أنْ كنت في هواك ثيابًا تهدّلت على قوامٍ نحيل، وكنت أنت النصَّ المستجيرَ بهوامشِهِ من لهيبِ قلمي.

لا عليكِ من تلك الأشلاء، فلستِ "إيزيس" تجمعها، لم تغرسي أشواكَ شوقي وشقوتي، ولم تكن أعواد مشانقي من شجرةٍ تختال تحت نافذتك.

ليتكِ تركتِ لي سببًا للعتاب فأحاكمك بتهمة اغتيال الشعور، ليتكِ غادرةً لأعلنَ كفري بالعشق، وليتكِ قاسيةً بما يكفي لأشعلَ فتيلَ كبريائي وأصرخ: يا لثارات القلب.

لملمتُ بقايا "أنا" التي كانت، مُتأبطًا أطلالَ قصائدي بما فيها بيوت القصيد، وعبرتُ من كُوَّةٍ بجدارِ الممانعةِ إلى المنفى، كانت عينٌ على طيفك، والأخرى على ظهر راحلتي.

هربتُ بأشواقي وثمالةِ قدحيَ المكسور، أُعيدني إليَّ، أعيدُ ترتيبَ نبضاتي المُبعثَرة، وأجعل منك ذكرى، يطرقها خاطري على هامش الوقت، وكم كنت واهمًا، فالظباء تفر من الخوف إلى قلب الغابة الرهيب، وهكذا كنتُ.

هنا في المنفى، انكشف الغطاءُ عن أكذوبة المسافات، فليس البعيد عن العين بعيدًا عن القلب، وليس الغيابُ بوابةَ النسيان، هنا طيفُكِ المخبوءُ في مقلتي يلقيكِ ظلالًا على قلمي، فأكتب عنك وأكتبك، شعرًا ونثرًا، عنوانًا ومتْنًا، ديباجةُ كل نصّ، أعبر بكِ من سطرٍ إلى سطر، حاضرةٌ على ناصيةِ كل فكرة، على سنامِ كلِّ خاطر، هنا أحنُّ إليك حنين السجايا إلى يومِ عيد، أشتاق إليكِ بلهفةِ غريقٍ إلى النّفسِ الأول.

أكتبُ بأمنيةٍ مشطورة، بعضي يروم بثَّ شكاتي إليكِ، وبعضي يبتغي للمعاني كفنًا يحجبها عن مقلتيك، فإنْ هامتْ واستقرتْ على أعتابك، فصدِّقِي كذِبَتِي الكبرى: أني لستُ أهواكِ، أَنْسَتْني الأيامُ.. والمنفى.

 أ. عادل مناع 

جمهورية مصر العربية 

   مجلة العربي الأدبية 

ا. عادل مناع .. نص " من بريد المنفى "


التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

مجلة العربي الأدبية

2022