التجريب الأدبي بين ممارسة الإبداع وتنظير النقد .
" مقترح لمقاربة تنوع فعالياته في المنجز الروائي المصري "
" دراسة نقدية " (الجزء الأول)
كتب أ. د. سعيد شوقي :
قد لا يوجد مصطلح نقدي يمكن له أن يفر من قبضة نظرية الأدب مثل مصطلح التجريب Experimentation ؛ أعني أن التنظير للأدب لا يمكن له - أبدا - أن يقبض على هذا المصطلح ويأسره في متون أحكامه ؛ ذلك لأن هذا المصطلح يتقن فعل التخفي والفرار بامتياز من أي تنظير نقدي ، ومن ثم فإنه ينتمي - دوما وأبدا - إلى التحديث / التجديد ؛ لذا كان الربط بين مصطلح التجريب والتحديث ، ولا أقول الحداثة Modernism – وإن أسهم المصطلح في بنائها - أمرا ضروريا وحيويا ولازما ؛ ذاك لأن التحديث يفعل الأمر نفسه ، ومن ثم فهما وجهان لعملة واحدة ، بينما - الحداثة - وإن كانت تنتمي إلى التحديث بهوية المعنى والاشتقاق اللفظي فهي تدفع مجموعة من المعايير الثورية المتطفرة ، التي " تتجه إلى تدمير عمد النظام القديم "( ) عبر " إلغاء المعنى " ( ) والتي ترشحها بجدارة للمثول - يوما ما - في قائمة اتجاهات تاريخ الأدب .
والواقع أننا لو تعاملنا مع هذا المصطلح ، من هذه الرؤية : التجريب في مقابلة التحديث ؛ فلسوف نفهم معناه جيدا ، إذ إنه مثل التحديث ليس تثبيتا لمجموعة من المعايير المستقاة في أي زمن ، وإنما هو فعالية ( ) مستمرة من التحديث تنأى بنفسها عن أي معيار ، حتى وإن كان حداثيا - كالحداثة - ذلك لأن التجريب لم يكن ولن يكون في يوم ما معيارا ثابتا . إنه روح المغامرة المستمرة مع الجديد ( ) إنه صحو وحيوية ، وصبوة الخلق ( ) وبحث دائم لا ينقضي " عن الأدوات ، والآليات ؛ لإحداث التغير المطلوب " ( ) ؛ لذا فالتجريبية في الأدب بوجه عام " تشير إلى الممارسات الساعية للاقتراب من الواقع الحقيقي للإنسان ، كما يتمثل في مشاعره ودوافعه الباطنة ، وتشير كذلك إلى التكوينات الحرة للوعي البشري ، قبل أن يوضع في أغلال القيود ؛ وبذلك تسعى التجريبية إلى نقض القوالب الشكلية والموضوعية التي كانت سائدة في الأدب " ( ).
من هنا فإن التجريب لا يمكن أن ينعت بكونه مذهبا من مذاهب الأدب ، ولا يصح أن يصير مدرسة ، ولا منهجا من مناهج النقد ، ولا نوعا أدبيا ؛ لأنه – ببساطة - يستحيل تأطيره فلسفيا أو نظريا أو حتى إجرائيا – كما ألمحنا - ( ) . أقصى ما يمكن أن يكونه أن يصير فعالية / حركة / أداة / طريقة / صحوا / حيوية / صبوة / مفهوما ( ) / وسيلة من وسائل التطوير والتجديد والتحديث والتقدم؛ إذ إنه يستحيل تصور تطوير / تجديد / تحديث / تقدم في أي فرع من فروع الأدب أو الحياة أو العلم دون حدوث تجريب .
ولا شك أن مفهوم الفعالية / الحركة / الأداة / الطريقة / الصحو / الحيوية / الصبوة / الوسيلة هو المناسب لطبيعة التجريب ؛ وذلك لإمكانية دفعه وسط كل الأزمنة ، وكل المذاهب ، والمدارس ، والاتجاهات ، والمناهج ، وإمكانية سحبه في الوقت ذاته من كل ذلك بحرية تامة لا يمتلكلها إلا إياه . وبهذا الفهم فإن هذا المصطلح ينطبق على ما صنعه جميع المبدعين ، الذين تجشموا تجربة التجريب في الخروج على السائد المألوف ، في كل زمان ومكان . الأمر الذي يؤكد سريان دم التجريب في مفترق طرق المذاهب والمدارس والاتجاهات والمناهج في كل العصور والأزمنة ، دون أحقية أية جماعة أدبية أو نقدية في أن تزعم لنفسها ، أنها تمتلك حق التجريب كلية . إن ما يحق لها أن تزعمه – حقا - هو اختلافها الكمي عن غيرها ، إذ الكل مشترك في وسيلة التجريب ، الكل مشترك في النوع ، الكل يجرب لكن بدرجات كمية متفاوتة .
ولا ريب أن ثمة ما يؤكد ذلك في محيط الأدب والنقد ، فهنا جماعات خلقت على التجريب ، وهي كثيرة ، قديما وحديثا ، منها الأحدث مثلا : جماعة الجراد التي يزعم أصحابها " أنهم يزيحون الستار بفظاظة عن اتجاهات عدمية ، ترى أن القيم والمعتقدات التقليدية لا أساس لها من الصحة ؛ إذ ما عادوا يثقون في التجارب والقيم التي ارتكز عليها آباؤهم وعالمهم ومجتمعهم " ( ) . وتصدر الجماعة مجلة تسمى بالاسم ذاته : الجراد - استعارة تصريحية لهم - والجراد الذي هو هم " سيلتهم ما تكلس من الشعر بهدف إخراج منتج أخضر جميل ، لا شك أنه كريه لأولئك الذين اعتادوا مذاقا تقليديا " ( ) وترى المجلة " أنها قادرة على صفع كل القوالب التقليدية جاهزة الصنع " ( ) وبأنها ستشعل شرارة الإبداع في أنفسهم وبأنفسهم . ويعد فقدان الاهتمام بالفوارق بين الأنواع الأدبية ، صفة لازمة لنتاج هذه الموجة الشعرية الجديدة ( ) . والمشتركون في المجلة مطالبون بأن لا يمثلوا أية طوائف أو تيارات سياسية . والملاحظ أن " قصيدة النثر " هي المسيطرة على أعمال هؤلاء الشعراء " ( ) . وهناك جماعات عزفت على الأبنية القديمة لحنا حديثا بأوتار الوجدان ، مثل جماعة الديوان ( ) التي ساعدت على " غرس التقاليد الرومانسية .. في مجال التجديد بخطى أبعد عمقا ومدى " ( ) " أو جماعة أبولــو ( ) التي " دعت إلى معالجة النواحي الإنسانية في المجتمع ، وإلى الالتفات إلى الطبيعة المصرية ، وإلى الاندماج فيها ، وكذا الالتفات إلى طرائق الرمزيين في التعبير ، وإلى العناية بالإيقاع الشعري ، والتفرقة بينه وبين الوزن العروضي " ( ) أو جماعة الشعر المهجري بقسميها : الرابطة القلمية ( ) التي يعد شعرها " ثورة على الشعر التقليدي ، الذي كان قد بلغ ذروته عند شوقي ، وحافظ " ( ) والعصبة الأندلسية ( ) التي يرفض أدباؤها " التجديد الذي يهدم ولا يبني ، ويدعون إلى التجديد الذي لا يفقد الأدب العربي سماته المميزة " ( ) . وهنالك جماعات تحسست الطريق وسارت بحذر شديد ، مثل المدرسة الكلاسيكية الجديدة( ) التي هي مدرسة الإحياء والبعث التي بدأها محمود سامي البارودي ، وهي " مدرسة حافظت بقوة على تقاليد الشعر العربي ، وكل ما يتصل بشخصيته ، ومقوماته ، بحيث ثبتت فيه روحنا العربية ثبوتا خصبا ، ولم تحل هذه المحافظة بينها وبين بث عناصر جديدة كثيرة في أشعارها ، بل لقد أخذت تزدهر هذه العناصر وتونق ، بفضل ما حدث بينها وبين العناصر القديمة من تزاوج ، عصمها من الغلو المفرط في التجديد ، والاندفاع الجامح الذي ينبو بالشعر عن الذوق العربي الأصيل " ( ) .
إن الإشادة بريادة فاعلية التجريب من أجل تطوير الأدب بصفة عامة ، أمر هام وضروري في هذا السياق ، فلولاه لظل الأدب في قوالبه الثابتة لا يتطور ، وأمثلة التطور الذي صنعه التجريب في تاريخ الأدب من الكثرة الكاثرة ، إذ هي التي تشكل منعطافته التاريخية التحولية ، ولعل أقدمها – مثلا - ما كان في اليونان القديم ، مع بداية فن المسرح ، " فلولا هذا التجريب الذي دفع ثسبس إلى إجراء حوار بين رئيس الجوقة وأفرادها في الاحتفالات الديونيسية القديمة لما ظهرت الأجنة الأولى للمسرح الأغريقي ، ولولا تشوف اسخيلوس إلى الانطلاق بتجربة ثسبس إلى آفاق جديدة لما ظهرت التراجيديا العظيمة التي عمقتها مغامرات سوفوكليس ويوربيديز مع الجديد ، ورغبتهم في توسيع دائرة المتحاورين ، وبالتالي في تثبيت دعائم التراجيديا الإغريقية وترسيخ جذورها . ولولا رغبة أرستوفان في تقديم شيء مغاير لما قدمه عمالقة التراجيديا الإغريقية الثلاثة لما ولدت الكوميديا ، فالملهاة المسرحية ، كالمأساة تماما ، تدين بوجودها ذاته إلى تلك الجذوة المبدعة : صبوة الخلق والتجريب ( ) . وكذلك من أجل تطوير الأدب الحديث بصفة خاصة، بل لا أغالي إذا قلت : والنقد أيضا ؛ ولعل ما يؤكد ذلك ، ما شاهدناه من التطوير السريع الذي حدث في الأدب الحديث من لدن البارودي ( 27رجب 1255م المقابل 7/10/1839م ، وبدأ الشعر1271هـ المقابل 1854م )( ) حتى الآن ، مقارنة بما حدث من تطوير من لدن الجاهلية ( 200 سنة قبل الإسلام )( ) حتى البارودي. ولعل ما يؤكد ذلك أيضا تفشي المصطلح في الدراسات النقدية الحديثة مقارنة بالدراسات النقدية القديمة . والأمر حقيقة ليس تفشيا فقط في الكم مع تساوي المقارنة بين الحقبتين - قديما وحديثا - في الكيف ؛ لكنه تفش أيضا في الكيف بين الزمنين بدرجة لافتة .
وربما كان السبب في زيادة فعل التجريب ، داخل الأدب الحديث مقارنة بالقديم ، يرجع لأسباب خارج الأدب الحديث نفسه : كإيقاع العصر الحديث السريع المتغير ( ) الذي يتميز " بكثرة الثورات والأزمات الاجتماعية عامة والاقتصادية خاصة " ( ) أو لوقت البشر الذي أضاقه طبع العصر الحديث المتغير السريع في الأصعدة كافة أو نتيجة للجري وراء موضات الغرب الأدبية والنقدية والمنهجية ، التي تتقاطر ساعة بعد ساعة على بلادنا ( ) أو اطلاعا وثقافة وقصدا لاقتناص النوع من إبداع الغرب ، بوصفه نموذجا متقدما ، مثلما تم اقتناصه – على دخن - في مسرحية ( علي بك الكبير ) التي " ألفها شوقي وهو في باريس سنة 1893م ، بعد أن أتيح له أن يتصل بالأدب الفرنسي ، ويشاهد المسرحيات في العاصمة الفرنسية " ( ) ومثلما اقتنصه – على شهد – توفيق الحكيم بعد سفره إلى فرنسا أيضا ، سنة 1925م ، من ثقافة مسرحية أوربية ، شجعت عباقرة الأدب الفرنسي وأساتذته بالجامعات الفرنسية ؛ لما لمسوه فيه من رغبة جادة ، أن ينصحوه بضرورة العودة إلى جذور الفكر الأوربي ، إن كان جادا في دراسة الأدب التمثيلي"( ) وبما تحصل عليه من علوم أوربية استطاع الحكيم " أن يغير مفاهيمه الفنية والفكرية وأن يهتم بالدرجة الأولى بالدور الذي ينبغي أن يقوم به المسرح في حياة الناس والجماعة ، فالمسرح وعاء ثقافي يحمل للجمهور حضارة وفكرا ، وليس مجرد وسيلة للعرض المسرحي الممتع والناجح " ( ) ، ومن ثم أنتج الحكيم ( عودة الروح ) في الرواية و( أهل الكهف ) و( شهرزاد ) في المسرح ، بدلا من ذلك المستوى الذي تبدى فيه بمسرحياته التي كتبت - قبل سفره - لمسرح عكاشة . أو جريا وراء توجهات معينة لأجهزة الدولة الثقافية في بلادنا ، مثل التوجه الثقافي نحو فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ، الذي ابتدأت دورته الأولى عام 1988م ( ) وحتى الآن ، والذي يتضح من كلمة السيد وزير الثقافة التي تتصدر مطبوعاته السنوية أنه " أسلوب للاقتراب من العالم ، يحمي حرية المبدع ؛ إذ مفتاح الإبداع والتجديد الثقافي ليس في التقليد لأنماط ، بل هو في صدق المبدع وحريته " ( ) . أو ربما في طريقة فهم الأدباء لطبيعة التميز داخل عملية الإبداع الأدبي ؛ ففي الوقت الذي كان يرى فيه الأديب ، في الزمن القديم – فيما نظن - أن القمة الإبداعية Climax التي يود أن يصل إليها في إبداعه هي في حسن أدائه الباهر داخل النوع السائد : كالكلاسية ، أو الرمانسية مثلا ؛ نجد الأديب الحديث يرى أن هذه القمة الإبداعية تتمثل في تجاوزه للنوع السائد كلية ، وليس في الأداء الباهر داخل النوع ، ليس هذا فقط ولكنه يسعى ليفعل ذلك التجاوز في كل إبداع تال - وهذا هو الفارق الذي ألمحنا إليه عند حديثنا عن وجود اختلاف في الكيف بين الأدب القديم والحديث أيضا ، فضلا عن الكم فيما سبق - فمنذ بداية إبداعه ، يصر الأديب الحديث لا سيما المجرب ، على البحث - عن طريق فاعلية التجريب - عن موضوع جديد ، وشكل جديد ، وإيقاع جديد ، ولغة جديدة ، وصور جديدة ، إلخ . كل هذا يتم مع كل قصة يكتبها ، بل مع كل سطر يخطه ، إذ إن كل قصة – في نظره - تعتبر ماضيا يجب تجاوزه ، حيث إنه لا يود أن يقلد نفسه في العمل السابق عليه ، وكأن الإبداع – في نظره - عن طريق الأشكال الأدبية الثابتة والمستقرة داخل النوع – كما كان يفعل جل القدامى - عيب يجب البرء منه ، وكأن فاعلية التجريب أهم سمة في العملية الإبداعية قاطبة ، بها يصل الأديب إلى قمة الإبداع ، دون غيره من سمات ، ومن يصل إلى سمة بلوغ القمة في النوع الأدبي السائد الكلاسي مثلا ، أو الرومانسي مثلا ، فلا قيمة تجريبية له – هكذا نظره – ويفسر حسن حسني بعض هذا التبدل الدائم في مغامرة الكتابة ، عند كاتب مثل إدوار الخراط ، بمزج فعل الكتابة ذاتها بتبدلات الكاتب الوجودية ( ) التي لا شك أنها متبدلة دائما . أو قد يكون السبب داخلا في طبيعة الأدب ذاته ، فطبيعة الأدب أصلا طبيعة تجريبية ؛ فعندما توضع الكلمات بجوار بعضها البعض وعندما تنتقى حروفها بعناية ، إلخ ؛ فهذا بلا أدنى شك تجريب . أو قد يكون السبب داخلا في طبيعة الإبداع ذاته ، من زاوية أخرى ، هي زاوية مفهومه ؛ إذ إن مفهوم الإبداع Creation هو " نشاط إنساني يتصف بالابتكار والتجديد على عكس من الاتباع والتقليد " ( ) وكذلك مفهوم التجريب ، " وما دامت العلاقة بين التجريب والإبداع جدلية ، تمثل حركة الحياة وضوءها المتجدد ، فإن الحديث عنه دون التجريب يغدو ناقصا "( ) . أو من زاوية ارتباط لفظه بمشتق دال البدعة في الشريعة ومفهومه ، فالبدعة – أيضا - خارجة عن السائد المألوف ، وخروجها مطيته التجريب ، وكذلك يفعل دال التجريب . أو قد يكون السبب - أيضا - داخلا في كون التجريب – نقديا - انحرافا عن السائد المألوف ، انحرافا عن القواعد المعيارية التي تؤدي " عادة إلى لون من التجمد في الأداء الأدبي ، تتحول معه قواعد الأسلوب إلى حجر على التشكيل أكثر منها عونا على التعبير ، وذلك هو الذي يدفع إلى تولد حركات تجديدية " ( ) والانحراف عن السائد المألوف ، هو جل ما يصفق له النقد بشدة في الدراسات الأسلوبية الحديثة . أو قد يكون السبب متفقا مع ترف تأليف بعض أنواع الإبداع : مثل ما صنعه توفيق الحكيم في المسرواية ( ) التي لا شك أنها كانت " نزوة اصطلاحية ، خضعت ذات يوم لرغبة في التجريب الحر ، لكنها لا تستطيع أن تكون مذهباً متفرداً " ( ) .
(يتبع)
ا. د. سعيد شوقي
جمهورية مصر العربية
مجلة العربي الأدبية